- Home
- Media Center
University Journal
لم تكن حفصة بنت الحاجّ الركونية تنحدرُ من بيت ملكي، غير أنها أديبة شاعرة جمعت بين الجمال والحب والمال، كما أنها لعبت دورًا سياسيًا مهمًا تجاوز القول إلى المشاركة والتدبير والثورة، وأسهمت في مؤامرة سرية كادت أن تعصف بسلطان الموحدين في الأندلس. لقد كانت حفصة على اتصال بعدد من رجال المجتمع في غرناطة حيث كانت تقيم، فضلاً عن اتصالها بعدد آخر في مرّاكش العاصمة الموحدية في المغرب حيث استقر بها المقام أخيرًا، وبها توفيت ودفنت.
لقد رآها الأديب الأريب، والمؤرخ الأندلسي الفذّ لسان الدين بن الخطيب "أديبة أوانها، وشاعرة زمانها، فريدة الزمان في الحسن والظرف، والأدب واللوذعية"[1]، ولدت حفصة في العام (530هـ/1135م) في غرناطة، وقد اهتم أبوها بتعليمها وتأديبها، فنشأت مثقفة تلم من كل شيء بطرف، تنشد الشعر، وتكتبُ النثر في رشاقة الأنثى، وهي في حياتها الأولى تنعّمت بحياة الحرية[2].
في العام 549هـ وهي في حدود العشرين من عمرها تتعرف على فتى من أسرة ميسورة عريقة تقيم في قلعة بني يحصُب بالقرب من غرناطة، اشتهرت هذه الأسرة بالعلم والثراء والأدب، ذاك الفتى اللوذعي الأديب الذكي كان أحمد بن عبد الملك بن سعيد المكنّى بأبي جعفر.
أنشد أبو جعفر أحمد بن عبد الملك، قصيدة لفتت الأنظار بروعتها، فوقعت هذه القصيدة من الخليفة الموحدي أجمل موقع، وأثنى على ناظمها (مواقع التواصل)
أبو جعفر من التنعم إلى الوزارة!
كان أبو جعفر شاعر رقيق مجيد، صاحب لهم وحياة وفلسفة تميل إلى التمتع بلذائذ الحياة، وحين استقل أبوه بقلعتهم في الفترة بين سقوط دولة المرابطين وقدوم الموحدين، اتخذه وزيرًا، واستنابه في أموره، فلم يصبر على ذلك، واستعفى فلم يعفه، وعتب عليه أن يركن إلى الدعة والراحة، فكتب إلى أبيه[3]:
مولايَ في أيِّ وقتٍ ... أنالُ في العيشِ راحهْ
إن لم أنلْها وعمري ... ما إن أنار صباحهْ
وللملاح عيونٌ ... تميلُ نحو الملاحهْ
وكأس راحيَ ما إن ... تملُّ مِنّي راحه
والخطبُ عنِّي أعمى ... لم يقترب ليَ ساحه
فاعفني وأقلني ... مما رأيتَ صلاحه!
فأعفاه والده من وزارة القلعة، ورأى أنه لن يصلح للأمر، على أن الموحدين حين دخلوا الأندلس، وحلوا محل المرابطين، وكان الخليفة عبد المؤمن بن علي ونائبه ولده السلطان أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن قد جاء بجيوشه وفرسانه وقواته وعتاده، جاءته وفود الأندلس تترى للسلام عليه، ولمبايعة الموحدين في حكم الجزيرة الأندلسية، بيد أنه قد ظهر في هذا اليوم، إلى جانب أكابر الشعراء، شاعر حَدَث، لم يبلغ العشرين من عمره، ذاك هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، وكان قد حضر إلى جبل طارق مع أبيه وإخوته وقومه ضمن وفد غرناطة، ومثُل بين يدي الخليفة ضمن الشعراء. ولما جاء دوره، أنشد قصيدة لفتت الأنظار بروعتها، وكانت فاتحة مجده الشعري، وقد نقل إلينا ابن الخطيب منها الأبيات الآتية:
تكلم فقد أصغَى إلى قولِك الدهر ... وما لسواك اليوم نهيٌ ولا أمرُ
ورُمْ كلَّ ما قد شئتَه فهو كائنٌ ... وحاول فلا برٌّ يفوتُ ولا بحرُ
وحسبُك هذا البحر فألاً فإنه ... يقبِّل تُرْباً داسه جيشُك الغَمْر
وما صوته إلاّ سلام مردَّد ... عليك وعن بِشْرٍ بقربك يفترُّ
أطلّ على أرض الجزيرة سعدُها ... وجدّد فيها ذلك الخبَرَ الخُبرُ
فما طارقٌ إلا لذلك مُطرق ... ولابن نُصير لم يكن ذلك النصر
هما مَهّدَاها لكي تَحُلَّ بأرضها ... كما حلّ عند التِّمِّ بالهالة البدرُ!
فوقعت هذه القصيدة من الخليفة الموحدي أجمل موقع، وأثنى على ناظمها الفتى، وهنأ به والده عبد الملك. وحظى أبو جعفر هذا فيما بعد لدى السيد أبى سعيد والي غرناطة، فجعله وزيره[4].
لا نعرف على وجه الدقة كيف اتصل أبو جعفر بن سعيد بالحسناء الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية، لكن قصة حبها سرعان ما انتشرت في أزقة غرناطة، وفي قصورها، ومجالس رجالها ونسائها، حتى وصلت إلى أبي سعيد بن عبد المؤمن الوالي الموحدي الذي غار من هذا الحب بين وزيره وحفصة، ومنذ تلك اللحظة أضحى أبو سعيد بمثابة "العاذل" بين الحبيبين!
صريعُ حفصة!
ولقد كان عسيرًا أن تصفو الحياة بين أمير قادم من الصحراء، جافي الطبع، وبين شاعر غَزِل رقيق الحواشي، صداح النغم، يطربُ لكل فاتن، وتهفو نفسه لكل جميل، وبدأ ما أضمره أبو جعفر في نفسه سرا مكتومًا ينضح في شعره، فقد خرج ذات يوم في رحلة صيد مع أصدقائه، فكان مما أنشده تعريضًا بالأمير الموحدي جافي الطباع:
فقُل لحريصٍ أن يراني مقيَّدًا ... بخدمته لا يُجعلُ البازُ في القفص
وما كنتُ إلا طوع نفسي فهل أُرى ... مُطيعا لمن عن شأو فخري قد نقص!
فوصلت هذه الأبيات إلى عثمان بن عبد المؤمن الأمير الموحدي، فزاد من تضييقه على وزيره، وحرص على إهانته والحط من قدره، للدرجة التي دفعت الشاعر الوزير إلى القول:
مَن يشتري مني الحياة وطيبها ... ووزارتي وتأدُّبي وتهذبي
بمحل راعٍ في ذرى ملمومة ... زُويت عن الدُّنيا بأقصى مَرتب
فلقد سئمتُ من الحياة مع أمرئ ... متغضّب متغلّبٍ مترتب
الموتُ يلحظُني إذا لاحظته ... ويقوم في فكري أوان تجنّبي
وانتهى الأمر بأبى جعفر إلى أن ائتمر مع أخيه وبعض أقاربه على الانضمام إلى أحد الثوار المتمردين في شرق الأندلس يُسمى محمد بن مردنيش، ولحق أخوه وأقاربه بقلعتهم في بني يحصب. ولكنه جبن وتأخّر، ثم فرّ إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى بلنسية، ولكن عمال السيد الموحدي اكتشفوا أمره وقبضوا عليه، فأمر بقتله، وكان مصرعه في جمادى الأولى سنة (559هـ/1164 م)[5].
غرامُ حفصة!
لقد كانت بنات غرناطة جميلات ساحرات، نبيلات الكلام، حسناوات المحاورة، وكانت حفصة منهن فوق ذلك تتمتع بميزة العقل والعاطفة الرائقة، والشعر الصادح البسّام، وبدأت العلاقة تنسج بينها وبين أبي جعفر، وإن كنا لا نقف عند تاريخ أو أسباب نشوء هذه العلاقة، وفي وسط الأشعار المتبادلة بين الرفيقين، اقتحم الأمير عالمهما، فكانت خشية منها على أبي جعفر تتردد في الإرسال له، ومع ذلك أرسلت تقولُ[6]:
أزوركَ أم تزور فإنّ قلبي ... إلى ما تشتهي أبدًا يميلُ
وقد أمّلتُ أن تظمى وتضحى ... إذا وافى إليك بيَ المقيلُ
فعجّل بالجواب فما جميلٌ ... إباؤك عن بثينة يا جميلُ!
وحين التقى أبو جعفر بحفصة اختلاسًا ببستان "حَوْر مؤمّل" بالقرب من غرناطة، أنشد في بهجة قائلاً:
رعى اللهُ ليلاً لم يُرحْ بمذمَّم ... عشيةَ وارانا بحوْرِ مؤمَّلِ
وقد خفقت من نحو نجدٍ أريحةٌ ... إذا نفحت هبَّت بريّا القرنفل
وغرّد قمْريٌّ على الدوح وانثنى ... قضيبٌ من الريحان من فوق جدولِ
لكن حفصة كانت وجلة من آثار ذلك اللقاء، لقد رأته بصورة تنم عن الخوف من ذلك الأمير الموحدي العاذل الذي يريد أن يفتك بهذين الرفيقين..
لعمرُك ما سُرّ الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغلّ والحسدْ
ولا صفّقَ النهرُ ارتياحًا لقربنا ... ولا غرَّد القمري إلا لمّا وجدْ
فلا تُحسن الظنّ الذي أنتَ أهلُه ... فما هو في كل المواطن بالرَشدْ!
لقد كانت حفصة تغير على أبي جعفر بن سعيد غيرة تامة لافتة، ولم تكن تطيق أن يستأثر بها أحد دونها، وقد كتبت إليه في ذلك قائلة:
أغارُ عليكَ من عينيْ رقيبي ... ومنكَ ومن زمانك والمكانِ
ولو أنّي خبّأتُك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني!
كانت حفصة تمر عليها الليالي تلو الليالي وهي تفكر في مصير هذا الحبيب، ذلك الرجل الذي أعلن العصيان والجفاء للأمير الموحدي القوي، حاكم الأندلس بلا منازع، فتهتدي بعقلها إلى أن اللقاء بين الحبيبين بالزواج محكوم عليه بالفشل، لكنها رغم ذلك كانت تلتذ في خيالها بالتفكير فيه ليلاً[7]:
سلو البارقَ الخفَّاقَ والليلُ ساكنٌ ... أظلَّ بأحبابي يذكّرُني وَهنا
لعمري لقد أهدى لقلبيَ خفقةً ... وأمطرني منهلٌ عارضِه الِجفنا
وهكذا ظلت حفصة تُنشد في حبيبها أبي جعفر شعرًا غزلا رقيقًا كأجمل ما يعبر عن عالم المرأة الأندلسية في القرن السادس الهجري، لكن السيد الموحدي كان قد أخذ قراره بقتل أبي جعفر، وهو ما حدث في عام 559هــ، فلم تستوعب حفصة ما حدث، ولبثت عليه السواد، وأعلنت الحداد، وشاع ذلك في غرناطة، ونصحها الأقربون بترك السواد، بل جاءها التهديد الصريح بالعقاب إن هي استمرت على هذا النوح والبكاء، فقالت:
هدّدوني من أجل لبس الحدادِ ... لحبيبٍ لي أردوْه بالحدادِ
رحم الله من يجودُ بدمعٍ ... أو ينوحُ على قتيل الأعادِ
وسقته بمثلِ جودِ يديْه ... حيث أضحى من البلادِ الغوادِ!
ومما يُحكى أن أبا جعفر كان يستشعر أن موته سيكون بسبب حفصة، قال ابن الخطيب "كان قد أجرى الله على لسانه، إذا حرّكت الكأسُ بها غرامه، أن يقول: والله لا يقتلني أحد سواكِ؛ وكان يعني بالحبّ، والقدَر موكل بالمنطق، قد فرغ من قتله بغيره من أجلها"[8].
الهروب من غرناطة
على أن موت أبا جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد، قد جعل حياتها بائسة في غرناطة، فقررت في نهاية المطاف أن تترك هذه المدينة الغنّاء التي استحلت مع الموت الحبيب إلى شقاء وتعاسة، قررت الانتقال إلى مرّاكش في العدوة المغربية، والتقت بسلطان الدولة الموحدية وكبيرها، أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي مستجيرة بين يديه ارتجالاً من ابنه سلطان الأندلس أبي سعيد:
يا سيّد الناس يا من يُؤمّل الناس رِفده
امنُن عليّ بطِرْس يكون للدَّهر عده
تخطُّ يُمناك فيه: الحمدُ لله وحده
وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحّدين، فإنها كانت أن يكتب السلطان بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده[9]. فأمّنها الخليفة عبد المؤمن، وجعلها مؤدبة ومعلمة لبناته، وظلت على هذه الحال حتى وفاتها في المغرب سنة 580هـ وهي في الخمسين من عمرها دون أن تنسى أبا جعفر!