- Home
- Media Center
University Journal
يعيد الكاتب اليمني محمد الغربي عمران تشييد جزء رئيس من تاريخ اليمن الذي كان سعيداً وأصبح حزيناً. يلتقط الكاتب، صاحب مصحف «ظلمة يائيل»، تفصيلاً من زمن حكم الدولة الصليحية في اليمن، التي أسسها في جبلة علي بن محمد الصليحي عام 429 هجري، وقد كانت موالية للخلافة الفاطمية وتتبع المذهب الإسماعيلي (والتي حلت محل الدولة النجاحية التي كانت موالية للخلافة العباسية وتتبع المذهب السني). تعاقب على الحكم بعد المؤسس ثلاثة حكام كان آخرهم الملكة أروى بنت أحمد الصليحي (440ه- 532ه) وتلقب بالسيدة الحرة.
يبني عمران روايته الجديدة «مملكة الجواري» (دار نوفل- هاشيت أنطوان)، على أساس حكم أروى بنت أحمد، التي ربتها وعلمتها أسماء بنت شهاب ابنة مؤسس الدولة الصليحية. تتضمن الرواية ثلاث أجزاء: «صنعاء 470ه»، «ذي جبلة 510ه»، «إمام السراديب 532ه».
حكمت أروى من خلال الجواري، وإن كان مصطلح الجواري يستدعي العديد من الدلالات السلبية في ذهن القارئ المعاصر. لكن من يقرأ الرواية يستعيد المعنى الفعلي لمفهوم الجواري اللواتي كنّ يشكلن واحدة من أقوى طبقات القصر من ناحية الولاء المطلق للملكة، والذكاء والدهاء والثقافة الرفيعة، وتوافرهن على أساليب الإخضاع والتعامل مع الفتن والمراوغة من دون اللجوء إلى العنف المعتاد في الصراع على السلطة.
يقوم الكاتب بصياغة حبكة مشوقة تموج بالتفاصيل التاريخية التي سيّرت تاريخ اليمن في ذاك الوقت، فقد كان الصراع على السلطة في الأقاليم المختلفة مستعراً، وبدهاء شديد نجحت الملكة أروى في دفع الأئمة إلى الدعاء لها على المنابر بعد الخليفة. وعمدت إلى تدريب الجواري حتى أنهن ظللن يحكمن باسمها- عبر العديد من المؤامرات- بعد أن مرضت واعتزلت.
وعلى رغم عنوان الرواية الدالّ، لا تتخّذ «مملكة الجواري» من هؤلاء (الجواري) نقطة انطلاق في السرد، بل ينطلق من خلال جوذر- الذي كان قد التقى بشوذب وأحبها- وهو يعمل في سوق الورّاقين في صنعاء. وكان قد تلقّى وعداً من أحد العاملين المتنفذين في القصر بأن يكون كاتب رسائل الملكة. وعليه يُحمل عنوة إلى ذي جبلة ليجد نفسه فيما يشبه السجن، يجترّ ذكرياته مع شوذب حتى أنه يرسمها على جدران سجنه.
بعد المضي قليلاً في السرد، يدرك القارئ أن المركز السردي هو قصة الحب بين جوذر وشوذب، إذ تصله- مع الرسائل التي يتم تكليفه بنسخها- رسالةً منها. وعبر الاستمرار في إنكار أنها شوذب بل والإصرار على أن جوذر (الذي منحته الملكة اسم صعفان) يتوهم ويلقي عليها ما ليس فيها، تستعر قصة الحب ويقضي جوذر معظم حياته باحثاً عن شوذب.
يمتد هذا الخط السردي من بداية السرد إلى نهايته، حتى موت جوذر نفسه، وكأنّ حياته تمحورت حول رحلة البحث عن شوذب، غير عابئ بكل ما يدور في القصر مما تسرده عليه شوذب في الرسائل. بهذا، يصل إلى القارىء القسم الأكبر من السرد عبر الرسائل المتبادلة بين جوذر المقيم في ما يشبه المحبس وبين شوذب التي تنكر حقيقتها. تعمل الرسائل على توضيح ما يدور في القصر، فتكون هي الوسيلة لسرد تاريخ حكم الملكة أروى، وتعمل أيضاً على تأجيج عنصري التشويق والغموض اللذين يغلفان الرواية بأكملها، واللذين يعكسان خطط الملكة في توظيف الجواري للسيطرة على مقاليد الحكم. وتكرّس الرسائل أهمية النسخ في ذاك الوقت (ما سيتحول إلى مخطوطات في الحاضر) والنظر إلى الخط بوصفه موهبة فنية ثرية.
إلا أن الرسائل- وإن كانت تمنح السرد شكلاً محدداً- تسهم أيضاً في صياغة الحبكة الروائية. فالرواية تبدأ بالطريقة الملحمية، حيث تبدأ الأحداث من المنتصف، لا يوجد بداية محددة، فالكاتب يبدأ زمنياً من عام 470 هجري حيث عمدت أروى إلى تهميش زوجها الملك المكرم، هناك الكثير من الأحداث التي وقعت إذاً على المستوى السياسي، وفي الوقت ذاته يبدأ السرد من الصفحة الأولى بمغادرة جوذر من صنعاء إلى ذي جبلة محملاً بحبه لشوذب متمنياً لقائها. تؤدي الرسائل إلى كشف كل ما وقع في ماضي السرد، فتتداخل الأزمنة تماماً مثل تداخل شخصية شوذب.
بالتوغل في السرد، تظهر طبقة دلالية جديدة تتوازى مع قصة الحب المتبادل بين جوذر وشوذب، ومجريات الأحداث في القصر. فهناك نص آخر مواز يتعلق بحاضر اليمن ويبدأ من عام 2010، وهو مكتوب بالبنط الأسود الثقيل، وفيه تعود المخطوطات لتحتل أهمية كبرى في العصر الحاضر بوصفها مصدر ثروة. فيخرج شاب من السجن عام 2010- كان موظفاً في وزارة الثقافة- ليعمل بائع كتب على الأرصفة ويدرك أنه غارق في شبكات بيع المخطوطات، تتوالى الأحداث التي تكشف الفساد والسيطرة الأمنية البغيضة (المعتادة). وباندلاع الثورة ينضم إلى الجموع في ساحة التحرير ويقع في حب «الأستاذة» الناشطة الحقوقية المعارضة.
أول ما يتبادر إلى الذهن هو التوازي التاريخي من ناحية الصراعات المذهبية والصراع على السلطة في كل الأزمنة، وكأن ماضي اليمن هو حاضره، وصولاً إلى نقطة سيطرة الحوثيين. لكن بعد قليل تظهر طبقة دلالية جديدة في الحب المتبادل بين الموظف والأستاذة، وكأن رقصهما معاً وإقامتهما علاقة عميقة هو تعويض من غياب شوذب من حياة جوذر. لا تتوقف الرواية عند كشف أسرارها تدريجاً، بل إنها تنزع طبقة تلو الأخرى، إذ يحتفظ هذا الموظف بنسخة من حكايات جوذر ويقرأ منها على الجموع في ساحة التحرير، فتتهمه القوى المتشددة بالفسق وإشاعة الفجور. هذا النص الموازي يتشابك أيضاً مع الماضي (الذي يوهمنا الكاتب بأنه المتن الرئيس) عبر علاقات سردية ونفسية وفكرية.
وفي لحظة الاقتراب من الذروة، وهي النهاية أيضاً، حيث أفول الدولة الصليحية وصعود الحوثي إلى السلطة، يتحول الحاضر إلى المتن الرئيس ويتوارى الماضي بكل لغته المشوبة بالعاطفة، وببعض مشاهده التي تحيد عن المنطق لتكتسي رداء الأسطورة، ويتحول إلى هامش يلقي الضوء على «الآن». لقد ألقى جوذر بنفسه من النافذة ليدور «في فضاء لا نهائي» (314)، وفي الحاضر «طرحت على الأستاذة فكرة الهروب معاً خارج الوطن» (315). تبدو نهاية جوذر وهي شبيهة بنهاية بطل زوسكند في العطر، في حين تجيء الجملة الأخيرة في «مملكة الجواري» لتلخص واقعاً عربياً أليماً.