- الرئيسية
- المركز الاعلامي
صحيفة الجامعة
الأديب والشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح: شاعر اليمن ومفكرها الخالد - صحيفة الجامعة
![الأديب والشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح: شاعر اليمن ومفكرها الخالد - صحيفة الجامعة](https://qau.edu.ye/upimages/journal/QAU2025-01-31-867304.jpg.webp)
تمهيد: الكلمة سلاحٌ في وجه العدم
ليس عبد العزيز المقالح مجرد شاعر أو أكاديمي، بل هو مشروع ثقافي متكامل، تجاوز حدود اليمن ليصبح واحدًا من أعمدة الشعر والفكر العربي الحديث. عبر قلمه، أعاد تشكيل ملامح القصيدة اليمنية، وصاغ رؤيةً ثقافيةً حملت اليمن إلى العالم، والعالم إلى اليمن. كان المقالح، منذ أول قصيدة وحتى آخر كلمة، شاهدًا على تحولات وطنه، صامدًا في وجه العواصف، مؤمنًا بأن الأدب هو معركة الذاكرة ضد النسيان.
النشأة: ميلاد شاعر في قلب الجبال
وُلِد عبد العزيز المقالح عام 1937 في قرية المقالح بمحافظة إب، حيث الطبيعة التي تمتزج بالأسطورة، والتاريخ الذي يسكن تفاصيل الجبال والوديان. في قريته الصغيرة، بدأ رحلته مع اللغة، فحفظ القرآن والمعلقات في الكتّاب، ووجد في التراث العربي منبعًا يغذي روحه الشعرية. لم يكن الأدب ترفًا في حياة الفتى الريفي، بل كان نافذته نحو أفق أوسع، حيث صنعاء تنتظره، والمكتبات القديمة تحكي له قصصًا عن الشعراء الذين سبقوه.
المسيرة الأكاديمية: بين صنعاء والقاهرة.. بين التراث والحداثة
انتقل المقالح إلى صنعاء في خمسينيات القرن الماضي، وهناك تعمق في دراسة الأدب، مستفيدًا من كنوز المخطوطات في مكتبة الجامع الكبير. لكن تطلعاته لم تتوقف عند حدود اليمن، فسافر إلى القاهرة، حيث التحق بجامعة عين شمس، وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي عام 1977. كانت أطروحته عن الشعر اليمني في عصر بني رسول نقطة تحول في الدراسات الأدبية اليمنية، حيث أعادت اكتشاف تراث شعري مهمّش، وأثبتت أن اليمن لم تكن هامشًا في الخريطة الثقافية العربية.
المقالح الأكاديمي والمصلح الثقافي
عاد إلى اليمن ليصبح رئيسًا لجامعة صنعاء، لكنه لم يكن مجرد إداري أكاديمي، بل قائدًا لمشروع تحديثي. حوّل الجامعة إلى فضاءٍ للحوار بين التيارات الفكرية المختلفة، وأدخل مناهج نقدية حديثة، وأسهم في تطوير مؤسسات البحث العلمي. بالنسبة له، لم يكن التعليم مجرد شهادات، بل وسيلة لتحرير العقول من القيود.
الشاعر: بين المقاومة والوجود.. بين الوطن والإنسان
يعتبر المقالح من أبرز رواد الحداثة الشعرية في اليمن، حيث استطاع أن يحوّل القصيدة إلى سلاحٍ ناعم في مواجهة القبح والظلم. تنقسم تجربته الشعرية إلى ثلاث مراحل:
1. المرحلة الثورية (1970–1990): صوت اليمن في معركة المصير
في هذه المرحلة، كانت قصائده تعبيرًا عن النضال ضد الاستعمار والاستبداد. في ديوانه الشهير "لا بد من صنعاء"، جعل من صنعاء رمزًا للوحدة والمقاومة، قائلاً:
"لا بد من صنعاءَ، مهما تباعدتِ المسافاتُ
لا بد منها، حبلاً سرمديًّا بين القلبِ والتاريخِ،
بين الفكرةِ والهويةِ."
2. المرحلة الوجودية (1990–2010): تساؤلات في وجه العدم
مع تغير الأوضاع السياسية في اليمن، دخل المقالح في مرحلة تأملية، حيث أصبحت قصائده أكثر ذاتية ووجودية. في ديوانه "وراق الجسد العائد من الموت"، يكتب:
"أنا العائدُ من موتي،
أحملُ في يدي ألفَ سؤالٍ،
ولا شيء غير الظلالِ."
3. المرحلة الإنسانية (2010–2022): القصيدة كصوتٍ للضمير العالمي
مع اشتداد الصراعات في اليمن، تحوّلت قصائده إلى رسائل عالمية تندد بالحرب والعنف. في قصيدته "غيمة فوق سقف العالم"، يخاطب الضمير الإنساني:
"كمْ من طفلٍ يموتُ ليُضاءَ شعارُ حقوقِ الإنسان؟
كمْ من وطنٍ يُحرقُ، كي يظلَّ العالمُ في دفئهِ البارد؟"
السمات الفنية: المزج بين التراث والحداثة
تميزت قصيدة المقالح بعدة خصائص جعلتها علامة فارقة في الشعر العربي الحديث:
- البنية الإيقاعية: جمع بين الأوزان الخليلية وأساليب الشعر الحر، فخلق موسيقى شعرية خاصة به.
- الرمزية التاريخية: استخدم رموزًا من التراث اليمني، مثل بلقيس وسبأ، ليتحدث عن قضايا معاصرة.
- التشكيل البصري: تأثّر بالفن التشكيلي، فجاءت قصائده لوحاتٍ تنبض بالحياة.
عبد العزيز المقالح المفكر والناقد
إلى جانب الشعر، كان المقالح ناقدًا أدبيًا بارعًا، قدّم دراسات أسهمت في تشكيل الفكر النقدي العربي الحديث، ومنها:
- "قراءة في أدب اليمن المعاصر": دراسة معمقة للحركة الأدبية اليمنية.
- "الشعر بين الالتزام والإبداع": رؤية نقدية حول دور الأدب في التغيير الاجتماعي.
- "أزمة الهوية في الأدب العربي الحديث": بحث في أثر التحولات الثقافية على الإبداع العربي.
التكريمات والجوائز: اعتراف عالمي بإبداعه
حصل المقالح على العديد من الجوائز، منها:
- جائزة الملك فيصل العالمية (2017) تقديرًا لجهوده في تطوير الشعر العربي الحديث.
- جائزة العويس الثقافية (2010) عن مجمل أعماله الأدبية.
- وسام الفنون والآداب الفرنسي (2003) تقديرًا لدوره في نشر الثقافة العربية عالميًا.
إرثه الثقافي: ماذا ترك المقالح لليمن والعالم؟
لم يكن المقالح مجرد شاعر، بل كان مؤسسًا لمشاريع ثقافية تستمر بعد رحيله، منها:
- متحف المقالح في صنعاء: يضم مخطوطاته ومراسلاته مع كبار الأدباء.
- جائزة المقالح للإبداع الشبابي: لدعم المواهب الأدبية الجديدة.
- مؤسسة القلم النور: مشروع لدعم التعليم في المناطق الريفية.
الخاتمة: المقالح.. ذاكرة لا تموت
في 28 نوفمبر 2022، رحل المقالح بجسده، لكن كلماته بقيت حية، تُقرأ في الجامعات، ويستشهد بها في المنتديات الثقافية، وتُلهِم الأجيال القادمة. لقد كان أكثر من شاعر، كان شاهدًا على زمنه، ومؤرخًا لليمن بشعره، وضميرًا إنسانيًا لا ينطفئ. وكما قال في أحد نصوصه الأخيرة:
"أنا اليمنيُّ الأخيرُ، أقولُ لنفسي:
لا زلتُ حيًّا،
ما دامتِ القصيدةُ تنبضُ في دمي."
هكذا بقي المقالح، شاعرًا لا يموت، وكلماته شمسٌ لا تغيب عن سماء الأدب العربي.