- الرئيسية
- المركز الاعلامي
صحيفة الجامعة
10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية - صحيفة الجامعة
يكتب حبيب عبد الرب سروري حكاية النزوح إلى الفضاء في روايته الجديدة "نزوح" التي تنتمي إلى أدب الخيال العلميّ. ويختبر تجربة الحياة الإنسانية في الفضاء، على مستويات عدة، طارحاً أسئلة جوهرية حول إمكان الحب والإنجاب والتواصل البشري في العالم الخارجي. تنقل الرواية القارئ إلى الفضاء في مركبتين يقيم فيهما عشرة روّاد.
تشير مفردة النزوح اصطلاحاً إلى حركة انتقال الأﻓﺭﺍﺩ من مقرّ سكنهم أو بيئتهم أو وطنهم، وخروجهم إلى موطن آخر الأسباب كثيرة، وأكثرها شيوعاً هو الصراع المسلّح والحرب والاضطهاد وتردّي الأحوال المعيشية والاقتصاديّة. وفي المعجم، تعني جملة "نزح عن بلاده" أنّه رحل عنها، بينما تعني جملة "نزحت الدار" أنّها نأت وابتعدت. لكنّ رواية اليمنيّ حبيب عبد الرب سروري بعنوان "نزوح" (دار الساقي، 2024) تعني ابتعاداً أكثر بعداً عن الوطن وعن الأرض، فهي تعني النزوح من كوكب الأرض بأسره إلى الفضاء الواسع.
تقوم هذه الرواية إذاً على الخيال العلميّ وعلى الاستباقات العلميّة، فإنّما هي رواية تجري أحداثها في إطار مستقبليّ داخل رحلة فضائيّة تجسّد عمليّة نزوح البشريّة إلى الفضاء. أسئلة وجوديّة إنسانيّة يطرحها عبد الرب سروري، البروفيسور في علوم الكمبيوتر والمقيم حاليّاً في فرنسا، في خضمّ هذه الرحلة إلى الفضاء. أسئلة حول الحياة والموت وكوكب الأرض والعائلة والحبّ والإنجاب والعلاقات البشريّة والمجتمع والحضارة والمستقبل والذكاء الاصطناعيّ والروبوتات، أسئلة كثيرة يطرحها الكاتب والراوي معاً، ويتركان القارئ ليفكّر فيها، بينما هو سابح في مكان معلّق بين الأرض والفضاء.
مركبتان وثلاثة مستويات سرديّة
يكتشف القارئ من الصفحات الأولى للسرد أنّ أحداث هذه الرواية تدور في الفضاء وتحديداً داخل مركبتين فضائيّتين اثنتين، تحلّقان في الفضاء ومن المقرّر أن تبقيا فيه مدّة سنتين للأولى، وسنة ونيف للثانية. ويكتشف القارئ أيضاً أنّ السرد يتناول الشخصيّات الساكنة هاتين المركبتين. فالمركبة الأولى التي تشكّل صلب السرد وجوهره هي مركبة اسمها بيغاسوس (على اسم الحصان الأسطوريّ المجنّح في الميثولوجيا الإغريقيّة)، وتحمل خمسة روّاد فضاء هم: سباسكي، فيشر، خولة، جلال، مانيارا. وتُسمّى هذه المركبة الأولى بروّادها رحلة XxxXx00F. أمّا الرحلة الثانية التي تشكّل الفضاء السرديّ الثاني في الرواية فهي رحلة Yyy4+1W وهي مؤلّفة من خمسة أشخاص أيضاً، هم أربع فتيات وشاب واحد تزوّج الأربع نساء معاً، وهنّ فيلسوفة وشاعرة وفيزيائيّة وعالمة إحياء، أما الرجل فهو متنبئ "من طراز جديد". ويلاحظ القارئ أنّ الشخصيّات في هذه الرواية لا تحمل أسماء بل خصائص عقليّة وجسديّة ونفسيّة وعمليّة هي التي جعلتها تدخل الرحلتين وتبلغ مرحلة النزوح إلى الفضاء.
تدور إذاً أحداث السرد حول مختلف مراحل هاتين الرحلتين الفضائيّتين، من خطوات اختيار الروّاد العشرة وامتحانهم، مروراً بشكلهم وخصالهم وعلاقاتهم وطباعهم، وصولاً إلى تطوّر الأحداث في خلال المغامرة الفضائيّة التي يخوضونها معاً وتطوّر العلاقات في ما بينهم. ويضطرّ القارئ إلى انتظار الصفحة 79 ليكتشف المستوى الثالث من السرد، من بعد تخصيص المستويين الأوّلين لكلّ واحدة من المركبتين على حدة، وهو مستوى حياة الراوي وشخصيّته وتاريخه وعائلته، فيقول الراوي: "لم أعرّف بنفسي بعد، أنا مدير هذه الرحلة الفضائيّة XxxXx00F، الخاصّة جدّاً، ولا دور لي يستحقّ الذكر، في رواية تدور حول يوميّات بيغاسوس وأبطالها، في الأساس، ورفاقهم لاحقاً في مركبة العائلة السعيدة".
ويظهر من السرد أنّ المركبتين الفضائيّتين إنّما تنطلقان من اليمن، وتحديداً من "حديبو "الجديدة" (عاصمة أرخبيل سقطرى "الجديدة")،... وأحد أهمّ معالم الأرخبيل الخفّاقة الحديثة، مجمّع مركزنا الفضائيّ الدوليّ وكليّاته." (ص: 83). هكذا يكون السرد مرميّاً بكلّيّته في المستقبل من حيث المكان والزمان والإطار العامّ وتسلسل الأحداث.
بين العلم والرواية
يكتب حبيب عبد السرور في مؤلَّفه الجديد الآخر الصادر حديثاً "الرواية مدرسة حياة" ( سلسلة "أنا الرواية" - دار المحيط) عن ولادة فكرة رواية "نزوح" في ذهنه، قائلاً: "ثمّ في يومٍ ما، في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، التقيتُ بباحثٍ علميٍّ يشتغل حول الأوضاع الصحّيّة والنفسيّة لروّاد الفضاء الذين يعيشون لأشهر، خارج الجاذبيّة الأرضيّة، وما تعانيه أدمغتهم من توتّر، وهي في محابس مركباتها، أو محطّاتها الفضائيّة عدّة أشهر..." (ص: 50). يطبّق سروري هذه الفكرة في نصّه، فهو يتوقّف عند شخصيّات عالقة في الفضاء مفصّلاً أحلامها وتطلّعاتها وقصصها وعلاقاتها والصعوبات التي تواجهها ومصائرها النهائيّة. في ما يربو على الـ250 صفحة بقليل يتوقّف الكاتب والراوي عند تفاصيل حياة روّاد الفضاء وهمومهم وحالاتهم، مع تحوّل الحبّ إلى نقطة الانطلاق والمفتاح لما يجري. فكيف تكون العلاقات في الفضاء؟ هل من علاقات جسديّة إنسانيّة ممكنة؟ هل الإنجاب في الفضاء ممكن؟
يتوقّف الراوي المتفرّج عند تفاصيل الشخصيّات التي تعاني خارج مجال جاذبيّة الأرض، ونراه مستغرقاً في محاولات إنقاذ روّاد الفضاء من دوّامات التوتّر والكآبة وفقدان التركيز. لكنّ القارئ لا يمكن أن يمتنع عن ملاحظة أنّ الراوي والسرد ومعهما حبيب عبد الرب السروري إنّما يحافظون على مسافة من حقيقة الواقع ويحافظون على نوع من مثاليّة في نقل الأحداث والتصرّفات والتعقيدات التي تواجه الشخصيّات. فلا مواقف محرجة فعلاً، لا نزاعات خطرة، ولا تظهر طبيعة الإنسان القاسية أو الوحشيّة أو الغريزيّة. تبدو شخصيّات عبد سروري مروّضة مهندمة مرتّبة، لا تغضب، لا تثور، لا تحنق، لا تنتقم. وكأنّ الكاتب حرص على نجاح مهمّة روّاد الفضاء أكثر من حرصه على الرواية كفنّ أو كانغماس في طبيعة النفس البشريّة عندما يواجهها تحدٍّ من هذا النوع.
صحيح أنّ النصّ فيه ما فيه من قصص حبّ وعلاقات، إنّما نراها قصصاً تتمّ معالجتها بقفّازين كما يقال بالإنجليزيّة، أي بنظافة وأناقة وأنفة بلا مشاكل نفسيّة ولا مشاعر سوداويّة، ولا غضب ولا حقد ولا إنهيارات ولا ضغينة، حتّى الحبّ الحزين في هذه الرواية أنيق. بمعنى آخر يهرب سروري من الغوص في سوداويّة النفس البشريّة ومثالبها خوفاً من فشل العلم أو البعثة إلى الفضاء، أو بكلمات أخرى خوفاً من فشل حركة "النزوح" المستقبليّة التي لا مفرّ منها في السنوات القادمة إلى الفضاء. وعلى الرغم من أنّ الكاتب يكتب في مؤلّفه "الرواية مدرسة الحياة": "إنّ الرواية لا تقلّ أهمّيّة، بالنسبة لي، عن العلم" (ص: 21)، نراه في هذه الرواية يؤثر نجاح العمليّة العلميّة الرؤيويّة على مضي الرواية في الحفر داخل النفس البشريّة.